إذاً: أن تشتغل بمحبته، وطاعته، وذكره، والتقرب إليه، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))[المائدة:54]، ففي هذه الآية إشارة إلى أن من أعرض عن حبنا، وتولى عن قربنا، ولم يبال بنا؛ استبدلنا به من هو أولى بهذه المنحة وأحق، فمن أعرض عن الله فماله عن الله بدل.
فأين تذهب يا مسكين! من بدلك، ومن عوضك غير الله إذا أعرضت عن الله؟!
قال: (ولله منه أبدال، فالله تعالى غني، وله أبدال عنك).
وقد ذكر بعض العلماء قصة هنا وفيها عبر، والأمر كما قال عمر رضي الله تعالى عنه وغيره: [ ما أكثر العبر، وما أقل الاعتبار ] فقد مر رجل من الصالحين وكان يتفكر في حال الخلق مع الله: كيف معاملتنا لله، ومعاملة الله تعالى لنا، فكان ماشياً يتفكر فإذا بطفل صغير ينفلت من أمه ويهرب في الأزقة، وهو لا يستغني عن أمه، وهي تناديه وتدعوه، فأبى أن يعود وشرد وتفلت وذهب، في الشمس والغبار، وذاق الجوع، فدعته ودعته فأبى، فأقفلت الباب، فرجع وهو يبكي ويطرق الباب، ففتحت أمه وقالت له: يا بني! ألم أقل لك لا تذهب عني، إذا ذهبت عني فمن يأويك، فاحتضنته أمه. فتعجب هذا الرجل، وقال: سبحان الله! هذا هو حال العبد المؤمن مع الله عز وجل، فإذا هربت وشردت منه فإلى أين تذهب يا مسكين؟! ومن يطعمك؟! ومن يرزقك؟! ومن يتولاك؟! فإنك ستعود إليه وتطرق بابه في أي لحظة.
إذاً: فلماذا تهرب منه ليس لك عنه غنى، وليس لك عنه بدل؟! وأما هو: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ))[محمد:38]، وليس بين الله تعالى وبين أحد نسب إلا التقوى، فبنوا إسرائيل قال الله عنهم في أكثر من آية: (( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ))[الجاثية:16]، وقال: (( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ))[البقرة:47]، ففضلهم الله على العالمين، لكن لما عصوا، وتجبروا، وهربوا وشردوا بالكبر والذنوب، وتكذيب الأنبياء، وأكل الربا، والبهتان العظيم الذي قالوه؛ استبدل الله تعالى قوماً غيرهم، وجاء بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة صفوة خلق الله، ولهؤلاء قال الله تعالى: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ))[محمد:38]، أي: حتى أنتم يا أصحاب محمد! صلى الله عليه وسلم -وحاشاهم من ذلك- لو توليتم لاستبدل الله بكم قوماً غيركم، وقد حمل هذا الدين العرب أول الأمر، وكان العجم الذين دخلوا في الإسلام قليلين، فتولى العرب فحمله الفرس والترك.
ثم جاء نور الدين محمود و صلاح الدين ، وقيل: إنهم من الأكراد أو من الترك أيضاً، فحملوه، ثم جاء التتار فحاربوا المسلمين، فشاء الله عز وجل أن المماليك والتتار هم الذين يكونون حملة الإسلام، ولا يبالي الله عز وجل بمن أعرض عن دينه، فيستبدل به من الهند ، أو من الفرس من إفريقيا ، أو من أمريكا .
فالمهم أنك يا مسكين! أنت المحتاج إلى الله، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي المشهور المعروف: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً )، فهو سبحانه لا يحتاج إلى عبادتنا، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15]، فما من موضع شبر من السماء إلا وفيه ملك راكع، أو ساجد، أو قائم لله تبارك وتعالى يعبده، فمن لديه هؤلاء الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم عباد مكرمون مصطفون مختارون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ هل يحتاج إلى عبادتنا؟! لا.
إذاً: فنحن الذين نحتاج إليه سبحانه؛ ولهذا يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (فمن أعرض عن الله فما له عن الله بدل، ولله منه أبدال) فهو الغني تبارك وتعالى، ثم أتى ببيت من الشعر الموال، وكان قد اشتهر هذا النوع من الشعر في العصر العباسي وما بعده، فأحياناً يذكر ابن رجب ، و ابن الجوزي رحمة الله عليها في المواعظ بعض الأبيات من كلام العامة، والتي يغنيها وينشدها العامة، وقد يكونون صوفية، لكن ليس ذلك شرطاً، فالمهم أنها أبيات ينشدها العامة، وهي منتشرة بين الناس، وقد يقصدون بها الله، وقد يقصدون بها غير الله؛ لكنها تعبر عن حقيقة معينة، وليست من الشعر العربي الفصيح، لكن لأن لها دلالة معينة، والعوام يعرفونها فإنما يستشهد بها، وهذان البيتان هما:
مالي شغلٌ سواه ما لـي شغـلٌ            مـا يصرف عن هواه قلبي عذلٌ
ما أصنع إن جفا وخاب الأمـلْ            مني بدل وما لي منه بدل
مني بدل، أي: لله تبارك وتعالى، وما لي منه بدل.